يوم مشمس جلله السواد

قبل ثمانية سنوات، في يوم صيفيّ وصمت جليّ,دقت عقارب الساعة تمام الواحدة ودقيقتين بعد الظهر من شهر أب, لتبدأ الحلقة التاسعة وسبعين من المسلسل المدبلج “كلاريتا”,أقبل الجميع لمتابعة المسلسل كلَ على حدا يقطن في بيته قسطاً للراحة.                                                                                     

لحظة انسجام وصفاء وهدوء غدت للوهلة,وتلاشت بين هدير صرخات غريبة, خائفة أملأت السمع وتعالت،كان الصوت صوت أطفال تائهين يركضون حافوا الأقدام وأنفاسهم تلهث هلعاً، لصورة تركت وشمها على جلودهم.     

كيوم اعتيادي تجلس العائلة لتناول الغداء..الأطفال الخمسة والام”حنان” بينهم,أما الأب مشغول في عمله كسائق سيارة أجرة ولا يعود إلا في ساعات الليل المتأخرة,اللحظة الأولى تبدو مطمئنة وكل الأمور تجري على ما يرام,”حنان ” تنتظر شقيقتها للحضور للبيتها  بعد ان اتفقت معهاخلال اتصال هاتفي أمبارح بأن تأتي وتقضي اليوم في بيتها برفقتها وأطفالها الذين تحبهم.                                                                    

بدأت بترتيب المائدة والأطفال يلتفون حولها بجوع, طلبت من طفلها”وديع”ابن 4 سنوات أن يصعد للطابق العلوي وينادي عمه”سامر” ليأتي لأكل الملوخية معهم فهو يحبها ويفضلها,وحالما وصل وديع هناك وفعل ما طلبته والدته,قال له: ” اذهب أنت الآن وأنا سآتي لاحقا”…مضت لحظات ونزل لبيت أخيه والعرق مندى على وجهه تجوبه ومضات جنونية  تطرق بابه بين حين وأخر. دخل “سامر ”  بغضب الى البيت وسكينته تلمع  في يده حيث “وديع” يداعب لعُبته عند عتبة الباب كرياح عاصفة تثور للحظات..تدمر ما حولها وترحل دون الاعتذار,دون الاكتراث بشيء غير تفريغ غضبه.                                                                              

جريمتين

غرزت السكينة طعناتها بجسد وديع وذرفت دماءه ممتزجة بدموع بريئة تتنهد ألما وأنفاسه شيئا فشيئا تنطفئ  حتى توقف قلبه عن الحياة وهبط ارضا  دون حس أو خبر رحل كالملاك نحو السماء دون قبلة وداع، حينها ضج صوت امه “حنان” بغصة مجهولة تنبض بتوالي بداخلها عندما سمعت دوي بكاء طفلها يتهافت عليها في البيت,سقط ما بيدها وانكسر, وطلبت فورا من أطفالها الآخرين بالهروب من الباب الخلفي لطلب النجدة وهي هرعت مسرعة لترى ماذا حصل..انهالت مما رأت”طفل رسمت الدماء هيئته البريئة””فصراخت عاليا و بدأت تخبط على صدرها وتقول:”مات الولد مات الولد” راحت مصرعة تحاول خطف طفلها من يده البشعة لكنها مربطه غير قادرة فهو منتصب أمامها ولو تجرأت على شيء ما  يشعل بها النار و يقتلها هي أيضا….هزها ضمير الأمومة اتجاه طفلها الذي منعها من ترك ابنها يموت َسدى… فاشتعل شجار عنيف  بين حنان وسامر ليشتد حينا ويبرد حينا أخر… تهرب”حنان” بذعر من غرفة تلوى الأخرىو”سامر”يلحق بها                                         

استمر الكر والفر حتى وقعت الفريسة في المصيدة ووهنت بالقرب من جثت طفلها الباردة لتضمه بحرارة بين ذراعيها بأنفاس متقطعة توشك على الهذيان حتى تلقت ضربة قاضية على رأسها  جعلتها تتأرجح بين الحياة والموت.

زحفت  نحو باحة المنزل الأمامية وجثت تحت فيء شجرة الليمون بالقرب من الدرج والدم يسيل كأنه أراد أن ينصب تذكار يمجدا روحها…..أنفاس أخيرة مشبوهة أنهت حياتها بوصول اخ  زوجها للمكان، حيث طلبت منه وهي تضغط على يده بترجي وصوت خافض مبحوح ” أن يرعى أطفالها الاخرين”… بعدها فارقت الحياة.           

أما المجرم  استطاع الهرب من مسرح الجريمة إلى بيته متجرد من أي ذنب,مغلقا باب بيته بإحكام على نفسه خائفا ووقف يترصد بجسد منتصب يرتجف وقلق وكأنه استيقظ مناللاوعي,م كأنه ارتكب جريمة  ولم يرتكبها، تجمع الجيران وأهل الحي والأحياء القريبة والبعيدة متفاجئين بما حصل بعد أن  سمعوا صراخ الأطفال الأربعة الآخرين أثناء هروبهم لبيت العم الأكبر البعيد عن بيتهم  بمسافة 500 متر طلبا للنجدة.                        

 وصلت سيارة الإسعاف ملهوفة.. تبحث عن ارواح استغاثت بها أو بالأحرى تبحث عن قتلى,تتابعا بالشرطة التي وصلت متأخرة لتقبض على سامر المجنون,كسرت الباب وداهمت بيته واعتقلته ودسته في السيارة مكبل اليدين وحكمت عليه بالسجن.                                                                                         

سامر كان يعاني من مرض عقلي منذ أكثر من عشر سنوات يسبب له غضب لا يستطيع السيطرة عليه وقد يجعله يرتكب جريمة لارتياحه لرؤية الدم.                                                                             

العُمر آسفاً

هيئة هرمة طاعنة في السن تجلس قرابة بيتها الذي لا يتعدى الغرفتين على كرسي خشبي مهترئ قديم، تتأمل كروم العنب وأشجار التفاح والمشمش خاصيتها طالما جاهدت باستمرار للإعتناء بهما…تستذكر سعادة الماضي وحزن حاضرها الغريب.

 ملامحها مجموعة بين  أمل الحياة  الذي يبدو ينبوعاً يستحضرهـا ببياض ناصع، وعيون براقة وجمالٌ لافت، يميزه إبتسامة عريضة لا تغيب،  وتتوسطها تجاعيد حادة تدل على الهرم والحزن سويا طاغيان على كل تلك الملامح التي بدت للحظة مشرقة.

تسرقها نظرات وتخطفها إلى بعيد إلى تلك  الأيام ..أيام العائلة الكاملة المتربطة مع بعضها البعض ولحظات السعادة التي كانت تغمر قلبها حينذاك كانت تطهو طعام بقدر كبير وتغسل ملابس كثيرة وتعجن خبزا لذيذ يكفي أولادها جمعيهم،رغم التعب طوال النهار من العمل في زمن لم يتوفر فيه اي تسهيلات بل الصعاب، فإن الأطمئنان كان يلمس قلبها  ويشفي روحها بوجود أولادها وحضور زوجها،كل ما يعود بها الزمن للماضي تدمع عيناها وينكمش قلبها وجعا على أيام سلبت منها أغلى ما تملك فلم يعد هناك من يؤكل الطعام بل هي وحدها والوحدة.أكثر ما تحب هو لهفة أولادها وحبهم إليها فترى قبلاتهم تتهافت عليها شعاعا خاصة في  العيد الصغير والكبير فترى المحبة في وجهم وبركة العيد تسعدهم، تشتاق لشقاوة أحفادها حين يجتمعون سويا  ولضحاكتهم البرئية …تذكر تلك اللحظة التي يضمها أولادها حين يأتون كل مرة من السفر وتبدو وكأنها امتلكت الدنيا وعادة للحياة مجددا.

فجأة  تدرك صوت الحاضر يوقظها  من حلم الماضي الذي لا زال يخططفها مرارا  فقط ليرسم طعما لحياتها التي أصبحت فارغة من كل شيء سوى جدران منزلها القديم التي باتت تحفظ وحدتها القاسية منذ أن رحلوا أبناءها من سنوات وتركوها يتيمة الحياة..كل من أولادها سعى إلى تأسيس حياته الخاصة وعائلته حتى غدت وحدها هي والوحدة معا تتشاركا الحياة،حتى فارقت اضحوكتها  ورحلت بقلب حزين ترك وراءه دمعة تمطر خبايها الأليمة كل حين وحين تستذكر  روحا حية كانت قد حلمت وحلمت حتى بات الحلم عنوان يحتظى به أملا.