أفكار شرسة وسطور مخلصة!

يا سطور! سوداء أم زرقاء! التي تصطفين واحدة تلوى الأخرى  فارغة تنتظرين على صفحة بيضاء!!…اسمعي كلماتي الهوجاء التي تحمل هواجس فوضوية بأفكار مرتبكة أملئت قلبي قلقا وأرغمتني بها عمدا..أحب أحيانا حين تجبريني للحديث معك رغم صمتك الأخرس فأنت حقا ممن يحفظ ما يقال له! مهما كان اللون الذي تختارين  أنت أن أكتب فيه كلماتي ومهما كان نوعه  مهما كان حجم تلك الورقة التي تحضنك امنحيني أقلها  واسمعي لي فأنا أحتاجك.

إعذريني حين لا أسطتيع أن أكتب دائما عما يزعجني فأفكاري الفوضوية  لا تسمح لي لصرامتها،أراها بين الحين والاخر عاجزة الفضفضة عني وملئ سطورك المطراسة،رغم  مللي الفائض من عدائية تلك التي تسجن نفسها في داخلي، حين تستقر مكانا لا يستطيع أحد  زحزحتها تستوطن وكأن الأرض أرضها وأنا ممن تستضيف… رغم إيماني  أنها على خطأ تماما فهي الضيف الغليظ وأنا في بيتي،أرحيلي عني بسلام  دون زعزت الحرب فيما بيننا .

هل الحياة مستحيلة أم ممكنة بعد الموت!!!!

نسمع أحيانا من يروي لنا قصص وحكايات من الماضي عن اناس قد توفوا وعاشوا مجددا..ربما القدر أو  الحظ سنح بذلك..فالحياة في الموت نعمة لا يرثها الإ البعض بل ممن له نصيب أكبر في ما بعد الروح….

ذكريات الطفولة

انا ايفون”موتت الله يرحمني” بهذه العبارة المازحة بدأت ايفون تسرد قصتها عندما سألتها عن موتها وهي طفلة….فالموت استضافها للوهلة وهجرها.

 كل ما تتذكره” ايفون” عن طفولتها هي أنها كانت طفلة في عامها السابع ،تقطن في بيت بسيط في بلدة قديمة ويلتف حوله شجر التفاح والبرتقال وبجواره فرن حجري”الطابون”, مع أسرة ميسورة الحال مؤلفة من أب وأم,وست إخوة احدهما مهندس وأخر مسّاح.               

كانت تساعد والدتها في أمور البيت وخاصة غسل الأطباق فهي تفضلها على الأمور الأخرى.ولحال المعيشة الجيد في عام 1954 التحقت أيفون وإخوتها بالمدرسة للتعلم,في ظل فترة لا يتمكن لجميع أطفال القرية من التعلم إلا ميسوري الحال.اعتادت دائما أن تحصل على درجة ممتازة في القراءة والكتابة وتنال إعجاب الأساتذة لاجتهادها في المدرسة ومن هوايتها المطالعة والبرامج الثقافية كانت من متابعي برنامج “فكر واربح”.                                          

كل صباح كانت تقصد مع والدتها بيت الجيران والأقارب الذين أحبوها وأحبوا طفولتها المثمرة فرحاً..حتى أنهم غنوا لها أغنية باتت كلماتها تنساب على كل لسان صغير وكبير:          

 “كيف حالك يا ايفون!..حالة الكلاب..من ايش!!..من العزوبية..اتجوزي!!…فش مصاري…اشتغلي!!…كسلانة..شو معاكِ!!..حمار…شو محملتي!!…ليمون…وين بتبيتي!!!… تحت فيّ الزيتونة..تخديلك هالجوز!!!…أي أنا مجنونة… طيب  تخديلك هالصبية!..اااخ على دين الصبايا”.                                  

                                                                         

 

كذبة الموت

أنهت أيفون الصف الأول وبدءت العطلة الصيفية…وقريباً في عطلة من نوع أخر….!!! اجتمعت العائلة حول طبق أزرق اللون مملوء بحبات المشمش الحلو المذاق,بعد يوم مرهق من قطفه تحت أشعة الشمس المتوهجة.بدأت ايفون بتناول الحبة الأولى من المشمش..الثانية… الثالثة…..العاشرة,الكل اكتفى بحبة أو حبتين إلا هي ذابت بطعم المشمش الممتزج بين الحامض والحلو..استمرت في تناولها حتى أصبحت خاصرتها تؤلمها لدرجة أن الآلام كاد يخلع جسمها زاد الأنين وإشتد الإعياء والمرض، وجه مائل للاصفرار..هذيان وإرهاق..راجفات متتالية.

ما كان أمام  “ام مخائيل”  الإ أن تغلي لها مرمية يقال أنها مفيدة  لشفاء وجع البطن…لكن ذلك لم يأتي بفائدة.ارتمت ارضا مغمى عليها في بيتها من شدة مرضها.                                                                                    

                                                                                                                   

 نقلت ايفون إلى مستشفى رام الله القديم بالباص وأدخلت إلى قسم الإسعافات الأولية ، بإشراف الطبيب ” محمد أبو غوش” الذي ظل يرعاها ثلاثة أيام لمعرفة حالتها…حيث خضعت للفحوصات الطبية البسيطة.. لتخفف الآلام قليلاً. واصفا حالة ايفون بإصابتها بمرض “الكوليرا”,الذي كان منتشراً في تلك الفترة.                                                   

بقيت ايفون في حالة نزاع طيلة عشرة ايام حتى إعلان وفاتها في الساعة الثانية عشر ليلاً من يوم الخميس من الأسبوع الثاني. تم وضعها في غرفة الاموات وأرسلت امها خبرا لزوجها وكان يمتهن النجارة ليصنع تابوتا لابنته،والرجل من حزنه وقلقه طال الوقت معه وهو يصنع التابوت،بخيث بقيت المتوفاة في غرفة الاموات لثماني ساعات.                                                 

بدأ سيناريو حلم ما وراء الحياة….

المشهد الأول:أشجار خضراء وأزهار من كل الألوان يتوسطها نور شديد لامع خالي من كل ُظلمة,ليصبح النور على هيئة رجلا”يسوع” يلبس ثوب ابيض يحيط به ملائكة متوهجة نوراً وعظمة وعلى يمينه فرسين احدهما احمر والأخر ابيض,ويحمل بيده ملّبس على لوز وتفاح يمد بها نحوي للتقطهما,لكني ارفض..وأقول ليسوع أعطيهم ل”أبو ليّه”وهو شخص أخر كان من شخصيات الحلم…يرجع يعرض عليها عدة مرات لكنها تصر بالرفض…صراخ,وكلام غير واضح المعنى”تأن” وتنده على والدتها عند رؤيتها لبنات صغار يضعون شبر ابيض وزهري على شعرهم. قائلة:” لبسني مثلهم يما”.

المشهد الأخير من الحلم كان برؤيتها للراهبة”جوننيف” معلمة الدين في المدرسة التي تحبها كثيرا,حيث بدأت تنادي عليها بصوت عالي،ولما دخلت “ام مخائيل” الغلافة لتودعها إذا بها تشعر بأنفاس إبنتها،كانت البنت لا زالت على قيد الحياة. آخذت والدتها تضرب وتهز ايفون لتستيقظ. وفي لقطة اخرى مفاجأة اخترق الشيطان حلم ايفون التي كانت خائفة منه وصورته بانه مسك رقبتها يوشك خنقها.

في اللحظة هذه”ام ميخائيل” لا تسطيع الهمس بكلمة واحدة .. سوى الاصغاء لصرخات طفلتها  طغى عليها القلق والخوف الذي رسم تعبيرات مشوهة على وجها الحزين..أحست ان شيء ما ُيقتطع منها..بدا احساس الفراغ يحط بالمكان لا تعرف ماذا جرى لها..تنتظر ان تدب الحياة او نفس ينبض في ابنتها…لكن ما من مجيب!!!

كان والدها يطرق المسمار طرقة عشرة  في اللحظة التي ارادت فيها الممرضة تغطية ايفون بشرشف ابيض دخلت والدتها لتمنحها القبلة الأخيرة,جلست على السرير واقتربت منها لتلبسها ايقونة العذراء, أحست بشيء دافئ..سمعت صوت أنفاس خافتة ترنوا قربت وجهها اكثر لتشعر بدفئ ولتتأكد من صدق الهمسات الخافتة..كانت البنت ما زالت حقاً على قيد الحياة, الحمدالله ان الثلاجة لم تكن على مستوى الثلاجات في وقتنا الحاضر والا لفارقت الحياة ايفون. أخذت تركض “ام ميخائيل “في اروقة المستشفى تهلل فرحا وتصرخ وتنادي على الممرضة قائلة”بنتي عايشة بنتي عايشة” فدفعتها الممرضة أرضا الممرضة قائلة لها:”انتي مجنونة ايشي؟”,لكن ام ميخائيل لم تكن مجنونة ولا كان من صنع خيالها,فقامت عن الأرض واستمرت راكضة إلى غرفة الطبيب” ابو غوش”تروي له ما لاحظته على ابنتها…ضحك منها ساخراً متعجبا من الذي تقوله قائلا”مش معقول يا أم ميخائيل شو بتحكي”,ولكنها بقيت على إصرارها فتوجه معها الى غرفة الاموات واذا بالامر صحيحا,طرد الطبيب الممرضة  التي اوقعت ام ميخائيل ارضا وقال لها”اخلعي ملابسكِ  واخرجي من هنا”                                                         

                                                         

اذا استيقظت ايفون في صباح يوم الأحد ببدن يرتجف وبصر مفقود.. وبقيت في المستشفى بضعة ايام اخرى تحت العلاج حتى عاد لها بصرها الذي فقدته اثناء غيبوبتها,ورجعت سالمة معافاة. وتضيف مازحة”ارجعت بلا كندرة ابصر مينا اخد كندرتي”        “

اما بالنسبة للتابوت الذي وضع فيما بعد في” الطابون” ورفض موت ايفون,كان من نصيب طفل اخر كان قد تعرض لحادث مؤلم بعد فترة وجيزة,سقط في وعاء المربى الحار اثناء طهوه..فتم وضعه به ودفنه.

صادف انتشار خبر موت ايفون في البلدة,توزيع شهادات مدرسة اللاتين,حيث اصدرت المدرسة شهادة للطفلة المتوفاة,وعند الخانة المخصصة للترفيع من الصف الاول الى الثاني كتب على الشهادة بدل ذلك:ُترفع الى السماء.

فيما بعد اكملت ايفون تعلمها الخياطة في مخيطة بمخيم الجلزون,واشتغلت فيه لمدة تسعة اشهر، وفي مصنع للخياطة اخر في بيت لحم,وحاليا تعمل في قسم الانتاج في مصنع للادوية في رام الله

تزوجت عام 1974من جورج وبقيت معه لمدة سبعة اشهر لانه توفي,لكنها لم ترزق منه اطفال…وعام 1986 تكللت مرة اخرى من خليل من غزة,لم ترزق منه باطفال ايضاً واستمرت معه لمدة عشر سنوات ومن ثم توفي…سكنت في غزة لمدة تسعة اشهر ..بعدها باعت كل شيء وقدمت للضفة لتسكن في بيت الخربة دون زوج او اطفال فقط الوحدة التي تسامرها.

اختتم اللقاء ب”الله يرحمني” مجددا كما قالت ايفون….الله كتبلك عمر من جديد يا ايفون,كل شيء بيد الله,يفعل ما يريد ومتى يريد ولمن يريد!!! هذا القدر لا اعتراض عليه.